كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



وبالسين على الأصل قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة باشمام الصاد زايًا والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صرط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكرًا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع و{الصراط المستقيم} المستوى الذي لا اعوجاج فيه واختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق. وقيل ملة الإسلام. وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلِيمٌ} يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البفرة: 143] فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقديمن من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى: {وَأَنِ اعبدونى هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61] والقرآن يفسر بعضه بعضًا وفيه نظر، وقيل هو الإعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره: هو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ولهم أقوال غير ذلك قريبة وبعيدة، وعندي بعد الاطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم بتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على اختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين الله سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الاستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القوم علمًا وعملًا وخلقًا وحالًا وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلًا مصورًا بالتمثيل الرباني والتصوير الإلهي على حسب ما عليه العبد اليوم فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدًا، الثاني طريق الوصول إلى الله تعالى ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى الله تعالى ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقى من بعضها إلى بعض كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه فمتى قال العامي اهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الاستقامة على امتثال أوامرك واجتناب نواهيك ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وأبيّ رضي الله تعالى عنه وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه فما دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم، وللمحققين في معنى اهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أن يسأل عنه من أن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل.
أحدها أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] وفي الحديث: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» وثانيها: أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] وثالثها: أن الهداية الثواب كقوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثوابًا لنا وأيد بقوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] ورابعها: أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ولهم بعد أيضًا كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكامل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل.
بقي الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها وقد قيل إن عندنا احتمالات أربعة لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة والصراط المستقيم إما أن يؤخذ عنى خاص كملة الإسلام أو عنى عام كطريق الحق خلاف الباطل فعلى تقديري عموم الاستعانة والصراط وخصوصهما يكون اهدنا بيانًا للمعونة المطلوبة كأنه قال كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة فقالوا اهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الاتصال وعلى تقدير عموم الاستعانة وخصوص الصراط يكون اهدنا إفرادًا للمقصود الأعظم من جميع المهمات فيكون الفصل حينئذٍ لكمال الاتصال، وأما على تقدير خصوص الاستعانة وعموم الصراط فلا ارتباط، وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبرًا بما قدمناه لديك. وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي صراطًا مستقيمًا دون تعريف وقرأ جعفر الصادق صراط المستقيم بالإضافة والمتواتر ما تلوناه {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من الصراط الأول بدل الكل من الكل وهو الذي يسميه ابن مالك البدل الموافق أو المطابق تحاشيًا من إطلاق الكل على الله تعالى في مثل {صراط العزيز الحميد الله} [إبراهيم: 1و2]. وفائدة الإبدال تأكيد النسبة بناءً على أن البدل في حكم تكرير العامل والإشعار بأن الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لاستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده، وقيل صفة له. ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني غير الأول وكأنه نوى فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف، فعن جعفر بن محمد هو العلم باا والفهم عنه وقيل موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة وقيل التزام الفرائض والسنن ولا يخفى أن هذا القول خروج عن الصراط المستقيم فلا نتعب جواد القلم فيه. وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي صراط من أنعمت عليهم وهو المروي عن عمر وأهل البيت رضي الله تعالى عنهم. قال الشهاب: وفيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة {كَمَنْ} على الله تعالى انتهى.
وهو خبط ظاهر إذ الإضافة إلى المفعول لا الفاعل. والأنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال أنعم على فرسه ولذا قيل إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عوض، واختلف في هؤلاء المنعم عليهم فقيل المؤمنون مطلقًا وقيل الأنبياء وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل التحريف والنسخ. وقيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وقيل الأولى ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومن أطاع الله تعالى وعبده وإليه يشير قوله تعالى: {فأُولَئِكَ مع الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فما في هاتيك الأقوال اقتصار على بعض الأفراد. ولم يقيد الأنعام ليعم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة. وقيل بأن نجاهم من الهلكة. وقيل بالهداية وفي بناء أنعمت للفاعل استعطاف فكأن الداعي يقول أطلب منك الهداية إذ سبق إنعامك فاجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤالنا وسبحانه ما أكرمه كيف يعلمنا الطلب ليجود على كل بما طلب:
لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه ** من فيض جودك ما علمتنا الطلبا

وحكى اللغويون في {عَلَيْهِمْ} عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراءة حمزة، وكسرها وإسكان الميم وهي قراءة الجمهور، وكسر الهاء والميم وياء بعدها وهي قراءة الحسن، قيل وعمر بن خالد وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمر بن فائد، وكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها وهي قراءة ابن كثير وقالون بخلاف عنه وضم الهاء والميم وواو بعدها وهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة، وضمهما بغير واو ونسبت لابن هرمز وكسر الهاء وضم الميم بغير واو ونسبت للأعرج والخفاف عن أبي عمرو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء وقرئ بهما أيضًا. وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه. وحجج كل في كتب العربية.
{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} بدل من {الذين} بدل كل من كل. وقيل من ضمير {عَلَيْهِمْ} ولا يخلو من الركاكة بحسب المعنى وأما أنه يلزم عليه خلو الصلة عن الضمير فلا لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة والقول بأن {غَيْرِ} في الأصل صفة عنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ضعيف لأنها غلبت عليها الاسمية ولذا لم تجر على موصوف في الأكثر. وعن سيبويه أنها صفة {الذين} مبينة أو مقيدة ولا يرد أن {غَيْرِ} من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة بل ولا تبدل منها على المشهور لأنا نقول الموصوف هنا معنى كالنكرة فيصح أن يوصف بها وذلك لأن الموصول بعد اعتبار تعريفه بالصلة يكون كالمعرف باللام في استعمالاته فإذا استعمل في بعض ما اتصف بالصلة كان كالمعرف باللام للعهد الذهني فكما أن المعرف المذكور لكون التعريف فيه للجنس يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وفي حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ولذا يعامل به معاملتهما كذلك الموصول المذكور بالنظر إلى التعيين الجنسي المستفاد من مفهوم الصلة معرفة وبالنظر إلى البعضية المستفادة من خارج كالنكرة فيعامل به معاملتهما أيضًا فالذين أنعمت عليهم إذا لم يقصد به معهود كذلك إذ لا صحة لإرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات أو المجموع من حيث المجموع فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية أعني طائفة من المؤمنين لا بأعيانها فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كان كالنكرة وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أعني المنعم عليهم كان معرفة قاله العلامة الساليكوتي وغيره ولا يخلو عن دغدغة أو يقال وهو المعول عليه عند من يعول عليه أن {غَيْرِ} هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون، وقال ابن السري وغيره: إذا أضيفت {غَيْرِ} إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] لجواز أن يكون {صالحا} حالًا قدمت على صاحبها وهو غير الذي أو غير الذي بدلًا من صالحًا ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه {غَيْرِ} بالنصب وروي ذلك شاذًا عن ابن كثير وهو حال من ضمير {عَلَيْهِمْ} والعامل فيه {أَنْعَمْتَ} ويضعف أن يكون حالًا من {الذين} لأنه مضاف إليه والصراط لا يصح بنفسه أن يعمل في الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة، وجوز الأخفش أن يكون النصب على الاستثناء المنقطع أو المتصل إن فسر الإنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذٍ عنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه بلا لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله، وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}
[الأعراف: 12] وفي قول الأخوص:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه ** وللهو داع دائب غير غافل

واعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعد واو العطف والكلام فيه، وحكى بعضهم عن الأخفش أن الاستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه بلا حملًا على المعنى فحينئذٍ لا يرد ما ورد، وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الاستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو يجعل {غَيْرِ} عنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضي لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون {غَيْرِ} حينئذٍ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير.
والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح الكشاف له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلبًا للانتقام كما في شرح المقاصد. ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب، وفي الحديث: «اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» وفي الكشاف معنى غضب الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الإدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى.
وحديث: «سبقت رحمتي غضبي» محمول على الزيادة في الآثار أو تقدم ظهورها.
وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى: {أَءذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجده: 10] أي هلكنا وقوله تعالى: {وَأَضَلَّ أعمالهم} [محمد: 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق، وقرأ أبو أيوب السختياني {وَلاَ الضالين} بإبدال الألف همزة فرارًا من التقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39] قوله:
والأرض أما سودها فتجللت ** بياضًا وأما بيضها فادهامت

وهل يقاس عليه أم لا؟ قولان وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن الزبير أنهما كانا يقرآن {وغير الضالين} والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في {غَيْرِ} من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا عناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم فيه خلافًا للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينًا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالًا بعيدًا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره، والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلًا فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيات دون ذلك أهوال، واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} [المائدة: 60] وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} [المائدة: 77] والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعًا في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله} [النحل: 106] وقال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} [النساء: 167] ووردا لليهود والنصارى جميعًا على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين مع أن الضلال في بادئ النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناءً على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد وأشد عداوة للذين آمنوا ولدًا ضربت عليهم الذلة والمسكنة. وورد في الحديث: «من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود» رواه السلفي والديلمي وابن عدي، والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالًا من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا صلى الله عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء الله تعالى، وقول النصارى بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وقولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] فمن زعم أن النصارى أسوأ حالًا متوكئًا على ما في دلائل الأسرار لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لاسيما وفضل الله تعالى ليس قصور على البعض. وقال بعضهم: تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقربًا والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله تعالى عليه وتحقق، ولذلك أتى بالفعل ماضيًا وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدبًا ولأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام.
وقد عد ابن الأثير في كنز البلاغة والتنوخي في الأقصى القريب بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعًا غريبًا من الالتفات فإن كان الالتفات كما في استعمال الأدباء والمتقدمين عنى الافتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظاهر أن المخاطب إذا ترك خطابه وبنى ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى التفاتًا فكما يجري في الانتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب.
ويسن بعد الختام أن يقول القارئ: آمين فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في الدلائل عن أبي ميسرة: «أن جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما قال ولا الضالين قال له قل آمين «فقال آمين» ويقولها المأموم لقراءة إمامه فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ يعني الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يحبكم الله» وإخفاؤها مذهب ساداتنا الحنفية وهو مذهب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله بن مسعود، وعند الشافعية يجهر بها. وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبي حنيفة في رواية غير مشهورة مثله والمشهور أنه يخفيها، وروى الإخفاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مغفل وأنس رضي الله تعالى عنهما كما في الكشاف ورواية الجمهور محمولة على التعليم والبحث فقهي، وهذا القدر يكفي فيه وليست من القرآن إجماعًا ولذا سن الفصل بينها وبين السورة بسكتة لطيفة وما قيل إنها من السورة عند مجاهد فمما لا ينبغي أن يلتفت إليه إذ هو في غاية البطلان إذ لم يكتب في الإمام ولا في غيره من المصاحف أصلًا حتى ذكر غير واحد أن من قال: إن آمين من القرآن كفر، وهي اسم فعل مبني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين والبحث عن أسماء الأفعال مفروغ عنه في كتب النحو والصحيح أنها كلمة عربية ومعناها استجب وقيل موضوعة لما هو أعم منه ومن مرادفه ومن الغريب ما قيل إنه عجمي معرب همين لما أن فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب وردّ بأنه يكون وزنًا لا نظير له وله نظائر ولذا قيل إنه في الأصل مقصور ووزنه فعيل فأشبع، ومن العجيب ما قيل إنه اسم الله تعالى والقول في توجيهه أنه لما كان مشتملًا على الضمير المستتر الراجع إليه تعالى قيل إنه من أسمائه أعجب منه وقد تمد ألفه وتقصر وإلى أصالة كل ذهب طائفة، وأما تشديد ميمه فذكر الواحدي أنه لغة فيه، وقيل إنه جمع آم عنى قاصد منصوب باجعلنا ونحوه مقدرًا، وقيل إنه خطأ ولحن وحيث إنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح قال بعضهم: لا تفسد به الصلاة وإن كان لحنًا، وفضل هذه السورة مما لا يخفى ويكفي في فضلها ما روي بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال: يا أبيّ وهو يصلي فالتفت أبيّ فلم يجبه فصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة قال: أفلم تجد فيما أوحى الله إليّ أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى قال تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقرأ في الصلاة فقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها للسبع من المثاني أو قال السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته» والأحاديث في ذلك كثيرة ولا بدع فهي أم الكتاب والحاوية من دقائق الأسرار العجب العجاب حتى إن بعض الربانيين استخرج منها الحوادث الكونية وأسماء الملوك الإسلامية وشرح أحوالهم وبيان مآلهم، وبالجملة هي كنز العرفان بل اللوح المحفوظ لما يلوح في عالم الإمكان. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بإشراق أنوارها والاطلاع على مخزونات أسرارها إنه ولي التوفيق والهادي إلى معالم التحقيق.